حيث لا يلتقي البحران

في بقعة من بقاع الأرض لا تحتل مكانا داخل جدول أعمال السياسة التركية، وحيث يقع مضيق جبل طارق الذي يفصل بين مياهين؛ مياه البحر المتوسط، مياه المحيط الأطلسي، يمر الإنسان على مدينة طنجه ثم على مدينة تطوان؛ فيشعر وكأنه انتقل من قارة إلى أخرى، رغم أن المدينتين تقعان كلتاهما في دولة المغرب.

فقد نفذت مدينة طنجه الإسلامية عبر منشور غربي؛ فاستحالت أطيافها كلها انعكاسا لذلك المنشور. وأضحت المدينة تعكس هوية أفسدها الاستعمار أكثر مما تعكس حالة التمازج بين الثقافات المختلفة. وهو ما يبدو واضحا جليا من الطراز المعماري الذي عمل الاستعمار الأسباني والفرنسي بل والإنجليزي على محو كل روح فيه تدل على هويته الإسلامية. وأرى أن التأثير الاستعماري قد فرض عملية التغريب فيها على كل ما هو شرقي وأفريقي ويمت للإسلام بصلة.
فأنت ستدرك من حينك حين تطأ قدماك أرض طنجة أنك قد أخطأت بظنك أنك ذاهب إلى مدينة أفريقية؛ فلا وجود هناك لصحراء أو ناقة وجمل..
وعلى مقربة من طنجة، وعلى نفس الساحل، ولكن بعد أن تعبر مضيق جبل طارق تاركا مياه الأطلسي لتجد نفسك مباشرة في مياه البحر المتوسط؛ هناك ستباغتك مدينة “تطوان” بثقافتها المختلفة تماما؛ فتجد نفسك في دقائق وكأنك انتقلت من قارة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى داخل بلد واحد هو المغرب.
فتطوان مدينة نحجت في الحفاظ على استمراريتها الثقافية والتاريخية، فهي من وجهة نظر الغرب وعلى حد تعبيرهم تمثل “الآخر”.
فكأني بالأندلس التي حولها الأسبان إلى واجهة سياحية ليس إلا، لا تزال تعيش وتنبض في تطوان. وهي في الأصل إحدى المدن التي أسسها مسلموا الأندلس قديما. وإنك لتجد من العائلات العريقة في تطوان من يحفظ أن أصله يمتد إلى الأندلس، بل ويعد ذلك مفخرا من المفاخر. وترى كذلك البيوت والمنازل العريقة في شوارع تطوان تعلن مفاخرة بهذه الأصالة المعمارية.
ويمكننا الجزم هنا بأن  ما أضفى على تطوان ميزتها وتميزها بين مدن المغرب هو حفاظها على استمراريتها التاريخية من خلال غرس ثقافة الأندلس داخل أنماط الحياة اليومية.
وقد لفت محمد بنابود المتخصص والخبير في الأندلس انتباهي بكتاباته إلى نقطة لم يتنبه ويقف عندها الكثيرون؛ وهي أنه رغم سقوط الأندلس سياسيا وعسكريا فوق أرضها، إلا أنها لا تزال حية مستمرة في الطرف الآخر بثقافتها. ومن هذه الناحية تعد مدينة تطوان مصنعا لإنتاج ثقافة الأندلس، وترويجها.
ولقد امتزجت في تطوان عناصر الثقافة الإسلامية المختلفة كما امتزجت فيها العناصر العرقية والدينية المختلفة. وإن تكن المغرب قد ظلت بعيدة عن التأثير العثماني ، إلا أن تطوان قد أخذت تتعرف على الثقافة العثمانية اعتبارا من النصف الأول من القرن التاسع عشر عندما لجأ إليها الجزائريون فرارا من الاحتلال الفرنسي محملين بعناصر الثقافة الإسلامية.
ومن ثم فإن انتقال ثقافة الأندلس إلى خارجها، واضطلاع تطوان بمهمة الحفاظ على استمراريتها، بل وإعادة إنتاجها، لهو موضوع جدير بالتوقف عنده ودراسته. فقد أضحت تطوان عنوانا لثقافة أندلس حية بعيدا عن أدبيات الحنين إلى الماضي والتوقف عنده؛ حيث تجاوزت ذلك الماضي إلى ثقافة أندلسية تتمتع بالدينامية والحيوية.
وعلى سبيل المثال حافظت تطوان على حيوية الموسيقى الأندلسية؛ فهذه الموسيقى تمتلك مقامات تختلف كثيرا عن مقامات الموسيقى العربية. وإنه ليكفيك دليلا على ذلك الفرق بين موسيقى غرناطة، وموسيقى الأندلس. فعندما استمع إلى موسيقى غرناطة، أجدني أسبح معها في بحر من العراقة والأصالة،وكأنني أستمع إلى موسيقى تركية كلاسيكية. أما الموسيقى الأندلسية فهي موسيقى تتميز بشعبيتها وحيويتها. كما أن موسيقى غرناطة تعزف على آلات كلاسيكية، أما موسيقى الأندلس فتعزف على آلات حديثة مثل الكمان.
وإن تكن المغرب تقع تحت التأثير الأندلسي من مختلف جوانبه ولاسيما من جانبه المعماري، إلا أن المغرب ليست هذا فقط. فالمغرب تمثل حالة امتزاج بين ثقافات متعددة مثل ثقافة الإسلام، والبحر المتوسط،وأفريقيا، والعرب، والبربر. وإذا ما أضفنا إلى ذلك التأثير الاستعماري على امتداد شريطها الساحلي، نجد أن المغرب مرآة تنعكس عليها هذه الثقافات جميعها.
ولذلك؛ فإن كان  مضيق جبل طارق بحكم وظيفته الجغرافية يجمع بين مياهين، إلا أنه، في الحقيقة، وبفعل التاريخ، مضيق يفصل بين قارتين، وبين حضارتين، حيث لا يلتقي البحران.
ترجمة: د. طارق عبد الجليل

lgili YazlarArabiyah

Editr emreakif on October 15, 2010

Yorumunuz

İsminiz(gerekli)

Email Adresiniz(gerekli)

Kişisel Blogunuz

Comments

Dier Yazlar

Daha Yeni Yazlar: